بقلم/ علي حَلَني
بعد خمسةٍ وعشرين عامًا على انعقاد مؤتمر عرتا التاريخي، يعود الصوماليون إلى المدينة التي أعادت إليهم حلم الدولة، وإلى الرئيس الذي آمن بهم حين فقدوا الإيمان بأنفسهم. في عرتا، حيث امتزجت الدموع بالأمل، وقف الرئيس إسماعيل عمر جيله حارسًا لوحدة الصومال وضميرًا لوطنٍ ممزقٍ يبحث عن ذاته.
اليوم، ومع إحياء الذكرى الخامسة والعشرين لذلك الحدث الذي غيّر مسار التاريخ الصومالي، يسترجع الكاتب ذكرياته الشخصية كصحفيٍ حضر تفاصيل المؤتمر لحظة بلحظة، وكتب من قلب التجربة قصة الوفاء والامتنان لبلدٍ صغيرٍ بحجمه، كبيرٍ بعطائه… جيبوتي.
————————————————————
قبل خمسةٍ وعشرين عامًا، كنت شابًا صحفيًا يحمل حقيبته الصغيرة وميكروفونه البسيط، لا يعلم أنه على موعد مع حدث سيبقى محفورًا في ذاكرة الصوماليين جميعًا: مؤتمر عرتا للمصالحة الوطنية. وقبلها بعدة أشهر، ما زلت أذكر جيّدًا ذلك اليوم الذي وقف فيه الرئيس إسماعيل عمر جيله على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، يَعِدُ العالم – بلهجة الأب لا السياسي – بأنه سيجمع الصوماليين المتنافرين إلى طاولة واحدة. كان وعدًا في قاعة نيويورك، لكنه تحقّق بعد أقل من عام في مدينةٍ صغيرةٍ، دافئةٍ بروحها، تُدعى عرتا، وكنتُ هناك.
حين دُعينا إلى جيبوتي، لم نكن نعلم أن تلك البقعة المتواضعة من الأرض ستُعيد رسم خارطة وطنٍ مفقود. جيبوتي فتحت قلبها قبل أن تفتح قاعاتها، والرئيس جيله لم يكن رئيسًا يستقبل ضيوفًا، بل أبًا يحتضن أبناءه العائدين من مواطن الانقسام والاقتتال. ستة أشهر كاملة ظلّ الرجل يتنقّل بين مساكن المندوبين، يُطمئن هذا، ويُصلح بين ذاك، ويقول لهم بلغة العارف: “لن تخرجوا من عرتا إلا وأنتم متصالحون.” جيبوتي – دولة صغيرة المساحة – حملت على كتفيها وطنًا كبير الجراح.
قدّمت كل ما تملك، وشارك شعبها في الحلم كما لو كان حلمًا جيبوتيًا لا صوماليًا فقط. رأيت بأمّ عيني الرعاة الفقراء يقودون نوقهم وغنمهم إلى مقر المؤتمر، يقدمونها كضيافة لإخوانهم الصوماليين. أتذكر أحدهم، شيخًا بدويًا بسيطًا، وقف أمام الجمع وقال بصوتٍ متهدّج: “سمعت أن إخوتي الصوماليين وفدوا إلى عرتا، لعقد مصالحة بينهم ، فجئت لأقدّم لهم هذه الناقة ضيافة ووفاءً.” ورأيت آخرين لم يجدوا الا جرة لبن أو زق سمن فجاؤوا بها هدية للمؤتمرين. ما زلت أستحضر وجوه الشباب الجيبوتيين، أولئك الفتيان والفتيات الذين تنقّلوا بين الضيوف بخفةٍ وتفانٍ، يخدمون بابتسامةٍ صامتةٍ لا تعرف الشكوى.
كانت تلك اللحظات تختصر معنى الأخوّة بأبهى صورها، وتُعيد تعريف الكرم، لا كعطاءٍ من وفرة، بل كعطاءٍ من المحبة والإيمان بالمصير الواحد.
كنت وقتها أعمل مع إذاعة ال بي بي سي العربية، نغطي أنا وزملائي الصحفيين من الحيبوتيين والصوماليين، وقائع الجلسات والخلافات، ونسهر الليالي الطويلة دون نوم، نلاحق تفاصيل لا تهمّ غرف الأخبار بقدر ما كانت تهمّ قلوبنا نحن الصوماليين. كان مؤتمر عرتا مزيجًا من العاطفة والسياسة، من الأمل واليأس، من التنافر والحنين. ومع كل تصعيدٍ كان الرئيس جيله يظهر فجأة، بابتسامته الهادئة، ورحه المرحة والصارمة في آن واحد، وصبره الذي لا ينفد، ليجمع القلوب قبل أن يجمع الأوراق.
رأيته أكثر من مرة يتجوّل في ممرات الخيمة في ساعات متأخرة من الليل، متعبًا، مثقلاً بالوساطات واللقاءات، لكنه لا يعرف التراجع. كنت أراقبه وأشعر أنني لا أرى وسيطًا بين الصوماليين، بل أرى الأخ الكبير الذي قرّر أن يحمل همّنا على كتفيه حتى النهاية. كان يحرس الخيمة كما يُحرس القلب من الكسر، لا ينام ولا يهدأ، يطفئ الحرائق قبل أن تبدأ، ويزرع الأمل حيث لا يُرى إلا الرماد.
وفي النهاية، وُلد الحلم. خرج الصوماليون من عرتا وهم يحملون وثيقة تأسيس الجمهورية الثالثة، بدستورها وحكومتها وبرلمانها، واعتُرف بها دوليًا لتبدأ رحلة العودة إلى الدولة. كانت تلك لحظة الفجر بعد ليلٍ طويلٍ من التيه، لحظةً شهدها التاريخ وكتبتها جيبوتي بعرقها وصبرها وشهامتها ومروءتها.
ومنذ ذلك اليوم، ظلّ مؤتمر عرتا مرجعية سياسية وأخلاقية للصومال وللصوماليين عموما، ليس لأنه أعاد بناء مؤسسات الدولة فحسب، بل لأنه أعاد بناء الإيمان بأننا شعب واحد مهما اختلفنا.
واليوم، بعد ربع قرن، نعود نحن الصوماليين إلى مدينة عرتا نفسها. نعود لا كفرقاء سياسيين ولا كمتحاورين متنازعين، بل كأبناءٍ يعودون إلى بيتٍ أول احتواهم حين ضاقت بهم البلاد. وفي استقبالنا الرجل نفسه – الرئيس إسماعيل عمر جيله – بذات الابتسامة، بذات الحماس، وكأن الزمن توقّف عند تلك اللحظة الأولى من الحلم.
ينظر إلينا اليوم بعينيه المفعمتين بالفخر، يرى ثمار ما زرع، ويرى الصومال وقد بدأ يستعيد مكانته في القرن الإفريقي. نقف أمامه جميعًا، قادةً وشعبًا وإعلاميين، نقولها من القلب: “شكرًا يا سيادة الرئيس، لأنك لم تكن مجرد وسيط، بل كنت الأخ الذي حملنا من الرماد إلى الضوء.” لقد علّمنا مؤتمر عرتا أن جيبوتي ليست دولة مجاورة فحسب، بل قلب الصومال حين توقف قلبه عن النبض. وعلّمنا الشعب الجيبوتي أن الأخوّة الحقيقية لا تُقاس بالحدود، بل بالمواقف التي تُنقذ الأوطان.
ولذلك، بعد خمسةٍ وعشرين عامًا، أكتب هذه الكلمات لا كمجرد صحفيٍ يروي قصة، بل كصوماليٍ يشهد بالعقل والعاطفة معًا أن ما فعلته جيبوتي لم يكن سياسةً بل محبةً خالصة تُكتب في سجلّ التاريخ الإنساني قبل السياسي.
شكراً جيبوتي… شكراً يا رئيس.
*علي حلني صحفي وباحث صومالي متخصص في الشؤون الإفريقية والشرق أوسطية، وعصو مؤسس للبرلمان الثقافي الصومالي.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر بوابة الصومال.


