بقلم: علي محمد عمر
وزير الدولة للشؤون الخارجية في جمهورية الصومال الفيدرالية.
حين يتأمل الشعب الصومالي رحلته الطويلة في طريق التعافي، تبرز حقيقة لا جدال فيها: تركيا كانت إلى جانب الصومال في كل فصل من فصول المعاناة والنهضة. فمن أحلك أيام الأزمة الإنسانية إلى الجهود المستمرة في بناء الدولة والتنمية، لم تتراجع تركيا قط عن التزامها. وليس من المبالغة القول إن عودة الصومال من حافة الانهيار الكامل كانت لتبدو مستحيلة لولا الدعم الأخوي من أنقرة.
ما يجعل هذه الشراكة مميزة ليس فقط تنوعها – إنساني، تنموي، أمني، واليوم اقتصادي – بل أيضاً عمق الثقة والتضامن الذي تستند إليه. فهي ليست علاقة محصورة في أروقة الدبلوماسية، بل رابطة بين الشعوب، تُرى يومياً في شوارع مقديشو حيث تعالج المستشفيات التركية المرضى، ويعلم المدرسون الأتراك شباب الصومال، ويعيد المهندسون الأتراك بناء البنية التحتية التي كانت في الماضي ركاما.
منعطف 2011
اللحظة الفارقة جاءت في أغسطس/آب 2011، عندما قام رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان بزيارته التاريخية إلى مقديشو في ذروة المجاعة. وفي وقت كان الصومال غارقاً في اليأس ومتروكاً من قبل المجتمع الدولي، أثبتت القيادة التركية أن الصومال لم يُنسَ. لقد كانت لحظة فارقة أعادت الصومال إلى بؤرة الاهتمام العالمي، ومهدت لانطلاقة جديدة في مسار التعافي.
تركيا لم تكتف بالمساعدات الإنسانية، بل تبع ذلك إنشاء الطرق والموانئ والمدارس والمستشفيات بخبرة والتزام تركي. كل مشروع لم يكن مجرد استثمار في البنية التحتية، بل إعلاناً عن الثقة في مستقبل الصومال.
الأمن والاستقرار: جهد مشترك
امتد التعاون من الإغاثة الإنسانية، إلى المجال الأمني – مسيرة طويلة ومعقدة لكنها ضرورية. فقد قامت تركيا بتدريب القوات الصومالية، وتزويدها بالمعدات الحيوية، ودعم بناء مؤسسات وطنية قادرة. هذه الجهود ساعدت الصومال على استعادة الاستقرار خطوة بخطوة.
مقديشو اليوم أكثر أمناً مما كانت عليه قبل عقد من الزمن. ورغم العقبات، فإن الدور التركي حال دون ضياع التقدم. وفي نظر كثير من الصوماليين، لم تعد تركيا شريكاً في التنمية فقط، بل ضامناً للأمل في مواجهة الإرهاب وعدم الاستقرار.
الصومال و”الانفتاح على أفريقيا”
لا يمكن فصل دعم تركيا للصومال عن سياستها الخارجية الأوسع، “الانفتاح على أفريقيا”، التي عمّقت حضور أنقرة في القارة. ففي عقدين فقط، تحولت تركيا من شريك بعيد إلى أحد أكثر أصدقاء أفريقيا حضوراً واحتراماً.
ازداد عدد السفارات، وتوسع حجم التجارة، وربطت الخطوط الجوية التركية العواصم الأفريقية بإسطنبول، لتجعل من تركيا جسراً بين القارات. وكان الصومال فخوراً بأن يكون ركناً محورياً في هذه الاستراتيجية. استضافة مقديشو لأكبر سفارة تركية في الخارج أمر يحمل دلالات رمزية وعملية: فهو يعكس عمق العلاقة ويؤكد التزام تركيا طويل الأمد بأفريقيا.
الصومال يرى نفسه بوابة تركيا إلى شرق أفريقيا، كما ترى تركيا نفسها جسر الصومال نحو أوروبا وآسيا. ومن خلال هذه الشراكة، نثبت أن التعاون “جنوب–جنوب” قادر على تجاوز المساعدات إلى خلق نمو وفرص عمل وتنمية مستدامة.
مواجهة تحديات إقليمية مشتركة
يبقى القرن الأفريقي منطقة مضطربة. النزاعات في السودان وجنوب السودان واليمن والكونغو الديمقراطية تهدد استقرار المنطقة بأسرها. ومن بين أخطر المخاوف احتمال تجدد الصراع بين إثيوبيا وإريتريا، بما يحمله من تداعيات بعيدة المدى.
في هذا السياق، تزداد أهمية الشراكة الصومالية–التركية، كونها قوة استقرار ليس للصومال وحده بل للتوازن الإقليمي. فمصداقية أنقرة كوسيط وشريك موثوق تمنح تعاوننا وزناً يتجاوز البعد الثنائي.
مستقبل مبني على الفرص الاقتصادية
المرحلة المقبلة في علاقتنا يجب أن تركز على التحول الاقتصادي. فالصومال يتمتع بأراضٍ زراعية خصبة، وثروة حيوانية وفيرة، وأطول ساحل في أفريقيا غني بالأسماك، وموقع استراتيجي يربط القارة بالشرق الأوسط وآسيا.
وبفضل صناعات تركيا المتقدمة، وروحها الريادية، وشبكاتها العالمية، تبدو فرص التجارة والاستثمار المشتركة هائلة. الصومال لم يعد مجرد متلقٍ للمساعدات، بل شريك يتطلع للنمو مع تركيا.
معاً يمكننا:
• تطوير الزراعة وصناعات الأسماك لإطعام الصومال والمنطقة،
• توسيع مشاريع الطاقة المتجددة لتغذية المدن والقرى،
• بناء مراكز لوجستية وتجارية تربط أفريقيا بالشرق الأوسط وآسيا.
وقد جاءت إنجازات أخيرة لتؤكد هذا التحول: المسح النفطي الذي أجراه السفينة البحثية التركية “أوروتش ريس”، الاتفاقية الجديدة حول الصيد، وحتى خطط إنشاء منصة إطلاق فضائية تركية في الصومال. هذه المشاريع الطموحة تفتح آفاقاً جديدة وتحول العلاقة إلى تحالف استراتيجي متكامل.
شراكة لا مثيل لها
في عالم كثيراً ما تتغير فيه التحالفات مع تغير الرياح السياسية، تبرز العلاقة الصومالية–التركية باعتبارها مبنية على الأخوة والتضامن والتضحيات. إنها شراكة أنقذت الأرواح، وأعادت الأمل، وتحمل الآن وعد الازدهار للأجيال المقبلة.
وبينما يتطلع الصومال إلى المستقبل، نظل مصممين على السير جنباً إلى جنب مع تركيا، ليس فقط كحلفاء، بل كعائلة واحدة. معاً يمكننا أن نبرهن للعالم أن الدول التي تتساند في أوقات الشدة، قادرة أيضاً على الازدهار معاً في أوقات الفرص.
إن قصة الصومال وتركيا ليست مجرد حكاية بلدين، بل شهادة على ما يمكن أن يتحقق حين تؤمن الأمم ببعضها، وتستثمر في بعضها، وتنمو معاً. تلك هي روح الأخوة، وذلك هو المستقبل الذي نبنيه.
- هذه المقالة نُشرت في الأصل على موقع وكالة أنباء الأناضول