بقلم / لينيت أمولي
تنعى كينيا اليوم أحد أبرز رموزها السياسية وأكثرها صلابة، رايلا أومولو أودينغا، الذي وافته المنية في ولاية كيرالا الهندية عن عمر ناهز الثمانين عاماً.
رحيله يُنهي حقبةً كاملة لرجلٍ أصبح اسمه مرادفاً لكفاح كينيا الطويل من أجل الديمقراطية والعدالة والإصلاح.
على مدى أكثر من أربعة عقود، جسّد رايلا أودينغا روح المقاومة والصمود. فمن سنوات الحكم الحزبي الواحد المضطربة إلى فجر التعددية الحزبية، مروراً بعدة انتخابات حامية الوطيس، كانت مسيرته السياسية حافلة بالعواصف والتحولات.
وُلد أودينغا عام 1945 لوالده جاراموجي أوغينغا أودينغا، أول نائب لرئيس جمهورية كينيا، فَورث منه شجاعة الموقف السياسي. وقد شكّك والده مبكراً في الحكم الاستبدادي، مما رسّخ في ذهن رايلا قناعةً بأن الديمقراطية لا تُمنح بل تُنتزع بالنضال، وهي القناعة التي رسمت مسار حياته بأكملها.
سنوات النضال والسجن
في ثمانينيات القرن الماضي، أصبح رايلا من أشد المنتقدين لنظام الرئيس دانيال آراب موي. وقد أدّى انخراطه في الحركة المطالِبة بالتعددية السياسية إلى اعتقاله تسع سنوات دون محاكمة.
غير أن السجن لم يُضعف عزيمته، بل زادها صلابة. وبعد الإفراج عنه، برز كأحد أبرز الأصوات المطالبة بالإصلاح الدستوري وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
بزوغ فجر التعددية الحزبية
لعب أودينغا دوراً محورياً في إعادة التعددية السياسية عام 1991، إذ تولّى قيادة منتدى استعادة الديمقراطية (FORD) ولاحقاً حركة الديمقراطية البرتقالية (ODM)، ليصبح في قلب التحولات الديمقراطية في البلاد.
قدرته على تعبئة الجماهير وتحدي النظام القائم وطرح رؤية لحكمٍ شامل جعلت منه رمزاً للأمل لدى ملايين الكينيين.
منعطف 2007
شكّلت انتخابات عام 2007 لحظة فاصلة في مسيرة رايلا الديمقراطية؛ إذ أدت نتائجها المتنازع عليها إلى أعمال عنف غير مسبوقة دفعت البلاد إلى حافة حرب أهلية.
وفي خضم الفوضى، اختار رايلا طريق السلام على حساب الانتقام، فوافق على اتفاق لتقاسم السلطة مع الرئيس مواي كيباكي عام 2008، وتولّى منصب رئيس الوزراء الثاني في تاريخ كينيا ضمن حكومة ائتلافية.
ورغم الكلفة السياسية والشخصية لذلك القرار، استثمر رايلا موقعه لدفع عجلة الإصلاح المؤسسي، وهو ما تُوّج بإقرار دستور عام 2010 الذي يُعدّ من أكثر الدساتير تقدماً في إفريقيا.
فقد كرّس هذا الدستور الحقوق الأساسية وأقام هيئات مستقلة ونظام اللامركزية (التفويض)، ليحقق بذلك الحلم الذي نادى به منذ ثمانينيات القرن الماضي.
إرث يتجاوز حدود كينيا
حتى في سنواته الأخيرة، امتد تأثير رايلا إلى ما هو أبعد من بلاده. فقد عُيّن ممثلاً سامياً للاتحاد الإفريقي لشؤون تطوير البنية التحتية، ورُشّح لاحقاً لمنصب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، في اعترافٍ قاريٍّ بدوره ورؤيته لوحدة إفريقيا وتكاملها.
إرث محفور بالتضحيات
إنّ قصة رايلا أودينغا هي حكاية تضحية جمعت بين الحرية الشخصية والطموح السياسي وسلام الأسرة، من أجل هدف واحد هو بناء كينيا ديمقراطية.
ورغم أنه لم يجلس يوماً في القصر الرئاسي، فإن بصماته واضحة على كل فصل من فصول المسيرة الديمقراطية الكينية.
لقد علّم شعبه أن السلطة يمكن تحدّيها، وأن الحرية تُكتسب ولا تُمنح، وأن الأمل يستحق التمسك به حتى في لحظات الألم.
“يمكنك أن تسجن الجسد، ولكنك لا تستطيع أن تسجن روح شعبٍ عازمٍ على نيل حريته”،
كما قال ذات مرة.
وبينما تتأمل كينيا اليوم في إرثه بعد رحيله، سيُذكر رايلا أودينغا ليس فقط كزعيم للمعارضة، بل كـمصلح لا يكلّ، ورجلٍ كرّس حياته من أجل قيم الحرية والعدالة والمساواة.
“الديمقراطية ليست محطةً نصل إليها، بل رحلة نسيرها معاً، مهما طال الطريق أو اشتدّت وعورته.”
واليوم، وإن بدت هذه الرحلة أكثر وحدةً بعد رحيله، فإن الخطى التي تركها وراءه ستظلّ ترشد أمةً بأكملها.