الافتتاحية- ولاية الشمال الشرقي: انهيار سردية صوماليلاند وبونتلاند.

مقديشو (بوابة الصومال) – تمتد ولاية “شمال شرق الصومال” الجديدة على ساحل بطول حوالي 800 كيلومتر، وتضم 68% من الأراضي التي تدعي صوماليلاند تبعيتها لها، وتشكل 44.1% من مساحة أرض بونتلاند، وتُمثّل بـ17 نائبًا في البرلمان الفيدرالي و26 نائبًا في برلمان بونتلاند.
هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات إحصائية، بل تعكس زلزالًا سياسيًا قلب المشهد الصومالي رأسًا على عقب بعد الإعلان عن تشكيل ولاية الشمال الشرقي.

لسنوات طويلة، ظلت منطقتا سول وسناغ على هامش الاعتراف السياسي، تتنازع عليهما بونتلاند وصوماليلاند دون أن تنالا أولوية حقيقية لدى أي منهما. اليوم، أعادت هاتان المنطقتان رسم خريطة السلطة عبر انضمامهما رسميًا إلى الحكومة الفيدرالية، موجهتين ضربة مزدوجة لاحتكار سياسي دام لعقود.

إعادة الحسابات السياسية

تمثل منطقتا سول وسناغ نحو 44.1% من أراضي بونتلاند، وكان نوابهما الـ17 يُحتسبون ضمن حصة بونتلاند في البرلمان الفيدرالي (48 مقعدًا). ومع تشكيل ولاية الشمال الشرقي، سيتم اختيار هؤلاء النواب ضمن هيكل إداري جديد، مما يقلص نفوذ بونتلاند في البرلمان بنسبة تتجاوز الثلث.

أما على مستوى برلمان بونتلاند، فهناك 26 نائبًا من نفس المناطق، لعبوا سابقًا دور “صانعي الملوك” في انتخاب رؤساء بونتلاند نظرًا لحيادهم. لكن الآن، ومع تحوّل ولائهم نحو إدارة جديدة، تتهاوى معادلة النفوذ الداخلي، ويجد الرئيس سعيد دني نفسه بلا أصوات ولا توازن ولا حلفاء.

أما صوماليلاند، فالوضع أكثر حرجًا. ففقدان 68% من أراضيها و24% من سكانها، كان كافيًا ليفكك سردية “الاستقرار الداخلي” التي تتكئ عليها حملتُها لنيل الاعتراف الدولي. انسحاب أكبر مجتمعاتها الطرفية يوجه ضربة قاسية لمشروع “الجمهورية ذات السيادة”.

عودة الدولة إلى الساحل

يُعيد إعلان الولاية الجديدة للسلطة الفيدرالية السيطرة على 800 كيلومتر من السواحل المطلة على خليج عدن – وهي منطقة حيوية واستراتيجية لطالما كانت ساحة صراع بين الفاعلين الإقليميين والدوليين. للمرة الأولى منذ سنوات، تمتلك مقديشو نفوذًا فعليًا على هذا الشريط الساحلي، ما يفتح الباب أمام استثمارات في البنى التحتية، ونشر الأمن، وتطوير الاقتصاد البحري.

من أبرز المواقع الواعدة مدينة لاسقُرَي الساحلية، التي كانت ميناء ومركزًا لصيد الأسماك وتتمتع بموقع مثالي لبناء ميناء عميق قبالة مضيق باب المندب.
ومع ازدياد الاهتمام العالمي بممر البحر الأحمر، وسعي تركيا لتعزيز وجودها البحري عبر تحالفاتها مع الحكومة الفيدرالية، قد تصبح لاسقري بوابة جديدة للتجارة والاستثمار في القرن الأفريقي.

مغامرة محسوبة من الحكومة الفيدرالية

اللافت في هذا التحول أن الحكومة الفيدرالية لم تنشئ ولاية الشمال الشرقي، بل اعترفت بها. لم تموّل الاحتجاجات في لاسعانود، ولم تحرّك الجماهير سياسيًا، لكنها التقطت اللحظة بذكاء واستثمرت فيها.

وبدعمها لمطلب إدارة فيدرالية، حوّلت فيلا صوماليا الغضب الشعبي إلى تقدم دستوري. لم يتطلب الأمر جهودًا مؤسسية ضخمة، لكنه تطلّب شجاعة سياسية عالية، خاصة أمام معارضة صريحة من بونتلاند وصوماليلاند. وباعترافها بالولاية، منحت مقديشو المجتمعات المهمّشة طريقًا إلى الوحدة من خلال الشرعية، لا عبر السلاح أو الصفقات.

إعادة تشكيل مشهد التحالفات القبلية

لطالما وُصفت الحكومة الفيدرالية بأنها تفتقر إلى التوازن القبلي، واتهمها بعض الزعماء من العشائر الدارودية – مثل دني ومدوبي – بأنها خاضعة لهيمنة الهويا. لكن عندما تنضم ولاية يغلب عليها طابع دارودي إلى المشروع الفيدرالي، تنهار هذه السردية.

رئيس الوزراء حمزة عبدي بري، الذي وُصف سابقًا بأنه ضعيف في مواجهة التوازنات القبلية، يظهر اليوم بمظهر الزعيم القادر على سد الفراغ السياسي الذي تركته غروي وكسمايو. وبهذا الزخم، تملك الحكومة فرصة نادرة لتجاوز عقدة بنادر، وتعزيز اللامركزية، والدفع بإصلاحات ظلت مؤجلة لسنوات.

فرصة تاريخية.. وتحذير مبكر

لكن رغم كل هذه المكاسب، لا مجال للاحتفال المفرط. فولاية الشمال الشرقي مشروع جريء قيد التشكل، ويتوقف نجاحه على قدرة الحكومة الفيدرالية في دعم الأمن والخدمات والمؤسسات المحلية. وإذا تراجعت الزخم أو أهملت التنمية، فقد تعود المظالم القديمة بصورة أشد.

كما تلوح في الأفق بوادر خطر سياسي: تشير تقارير إلى أن بعض الشخصيات النافذة من أبناء الولاية، والذين يتمتعون بنفوذ في غروي وهرجيسا، قد يرفضون العودة أو دعم الإدارة الجديدة. إذا استمر هؤلاء في التشبث بالوضع القائم، فقد يعوقون استقرار الولاية وشرعيتها.

أما بالنسبة لصوماليلاند، فالرسالة واضحة: لا يمكن نيل الاعتراف الدولي على حساب التماسك الداخلي. وأما بونتلاند، فقد وصلت إلى مفترق طرق: إما أن تواجه العزلة بمزيد من العناد، أو أن تراجع مسارها وتعيد تموضعها ضمن المسار الفيدرالي المتجدد.

إن ولاية الشمال الشرقي ليست مجرد إضافة إدارية جديدة، بل استفتاء شعبي على الانتماء، وتقدير للشجاعة السياسية، ومؤشر على أن الهامش لم يعد صامتًا. لقد كسبت الصومال هذه الجولة لا بالقوة، بل بالاعتراف. وربما يكون ذلك أقوى إنجاز للفيدرالية حتى الآن.