بقلم: أ/عمر عبدلّي محمد”
بعد أكثر من عشرين عاماً على اعتماد الفيدرالية كنظام للحكم في الصومال، لا تزال البلاد تفتقر إلى الاتجاه والرؤية الوطنية المشتركة. فالنظام الذي كان من المفترض أن يعيد بناء الدولة ويوحّد أبناء الوطن أصبح اليوم مصدرًا للانقسام والتجاذب السياسي، حيث تطغى الحسابات القبلية على المصلحة الوطنية.
في الحقيقة، لم تولد الفيدرالية في الصومال نتيجة توافق وطني، بل جاءت كحلّ اضطراري في لحظة سياسية حرجة. في مطلع الألفية، ومع خروج البلاد تدريجياً من أتون الحرب الأهلية، تم تبني الفيدرالية كمحاولة لاسترضاء زعماء ميليشيات وأقاليم كانت قد أعلنت حكمًا ذاتيًا مسبقًا، مثل بونتلاند. لكن الفيدرالية لم تُعَرَّف بشكل واضح، ولم تُشرح للمجتمع، ولم تُبنَ على أسس دستورية ومجتمعية راسخة. وحتى اليوم، يربط الكثير من الصوماليين الفيدرالية بمفهوم “الحرية القبلية” أو “الحكم الذاتي العشائري”، بدلًا من فهمها كنظام يقوم على العدالة وتقسيم السلطة والموارد.
والنتيجة؟ ما لدينا اليوم ليس نظامًا فدراليًا فاعلًا، بل دولة مقسّمة. الولايات الأعضاء في النظام الفيدرالي أُنشئت على أسس قبلية، لا اقتصادية أو جغرافية أو إدارية. أما تقاسم السلطة، فقد أصبح صفقة سياسية بين النخب، لا مبدأً دستورياً. العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات يغلب عليها التوتر والريبة، بل إن بعض الولايات تتصرف كدول مستقلة: تمتلك قوات أمن خاصة، وتسنّ قوانينها الخاصة، بل وتمارس علاقات خارجية بمعزل عن الدولة المركزية. هذا ليس اتحادًا فيدراليًا، بل تفكك مقنّن.
المشكلة الأكبر تكمن في الدستور المؤقت المعتمد منذ عام 2012 والذي لم يكتمل حتى الآن. فالأحكام الجوهرية المتعلقة بتوزيع الموارد والسلطات القضائية والنظام المالي لا تزال عالقة. وفي ظل هذا الفراغ القانوني، تعيش البلاد حالة من الغموض الدستوري والشلل السياسي. لا توجد محكمة دستورية مستقلة، ولا آلية فعالة لحل النزاعات بين مستويات الحكم المختلفة.
إن الفيدرالية غير المعرّفة لا تمثل فقط فشلاً إداريًا فحسب ، بل خطرًا وجوديًا. فهي تخلق مؤسسات متداخلة ومتنازعة، وتؤدي إلى تفاوت تنموي كبير بين المناطق، وتُضعف الهوية الوطنية. بدلاً من أن يعرّف المواطن نفسه كـ”صومالي”، باتت الهويات المناطقية والفرعية هي السائدة: “صوماليلاندي”، “بنتلاندي”، “غلمدغ لاندي”… والأسوأ من ذلك، أن هذا الانقسام الداخلي فسح المجال أمام قوى خارجية للتدخل والتأثير في القرارات الوطنية.
وإذا استمر هذا المسار، فقد تنزلق الصومال إلى مصير الدول المتفككة التي تحكمها كيانات محلية بلا هدف قومي مشترك.
لكن هذا المستقبل ليس حتميًا.
إذا أرادت الصومال إنقاذ مشروعها الفيدرالي، فإن عليها اتخاذ خطوات عاجلة، من أبرزها:
1. استكمال صياغة الدستور، لا سيما البنود المتعلقة بتقاسم السلطة والثروات وبناء نظام قضائي فيدرالي.
2. إنشاء محكمة دستورية مستقلة تفصل في النزاعات بين الحكومة والولايات.
3. إصلاح العلاقة بين المركز والأقاليم عبر قوانين ملزمة، وحوارات دائمة، واحترام متبادل.
4. إطلاق حملات توعية وطنية لتعريف المواطنين بماهية الفيدرالية ومقاصدها.
5. التوصل إلى اتفاق سياسي جامع يضع مصلحة الدولة فوق المصالح القبلية.
الصومال تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم. فإما أن تختار أن تكون مجموعة من الكيانات القبلية المنفصلة، وإما أن تبني جمهورية فيدرالية موحدة برؤية وطنية جامعة.
الفيدرالية لا تزال قابلة للحياة في الصومال، لكنها بحاجة إلى قيادة، وقانون، وإرادة سياسية تضع الوطن أولًا.
⸻
الأستاذ عمر عبدلّي محمد” هو محلل صومالي مختص في قضايا الحوكمة والتحول السياسي.
البريد الإلكتروني: omardhagey@gmail.com
ملاحظة: تعبر هذه المقالة عن رأي كاتبها، ولا تمثل بالضرورة موقف “بوابة الصومال” أو أي جهة يعمل فيها.